16 - 08 - 2024

إبداعات | بنت إبليس

إبداعات | بنت إبليس

مُذ كانت صغيرةً تتبع خطوات والدها، تَجلسُ فوقَ رُكبتيهِ وسط أصدقائه في المندرة، دون أن تحسب لتوبيخ أمها حسابا، وهي تُقدِّر جمالها، تَغترُ بمسحةِ الحُسن التي وهبها الله دون إخوتها، في العاشرةِ عَرفَ الشبابُ "شروق" فتاة لعوبا ناضجة، تتشهاها الأعين ، وتتمناها الأنفس، تَعلمُ قدر بضاعتها ، وتجيد في سبيلِ ذلك فنون المساومة، لم تستشعر الرهبة يوما، وهي ترى أعينهم الجائعة تلتهم جسدها بلا استئذان ، لم يغب عن بالها لحظة أن الفقراء أمثالها سلعة مهملة ، يَتسلّى بها الأغنياء رَيثما يلقونها حيث كانت ، هي عندهم نزوة ، طيش وتهور ، وذنب يستغفر منه ، لا تصلح لغير هذا، مشاعرهم المزيفة ، وكلامهم المعسول الملقى تحت أقدامها ، أكذوبة مُلفّقة ، لم تصدقه يوما، من أعماقها تكره هؤلاء أيَّما كُره، تتمَّنى يوما تُذيقهم سوء العذاب.

حتى وإن أبدت تجاوبا في مراتٍ ، لكن هاجسا يقمعها ، يُحذّرها أن تُسلب أعزّ ما تملك فتاة ، رأس مال لا يمكن استرجاعه ، منحتها الأيام الفرصة كي تُراوغ، ما أبهجها كلَّما سَالَ لُعاب ضحاياها، تندفعُ في طريقها لا يكبح جمِاح غرورها شيء، لم تأخذ بنصيحةِ أمها وهي تنذرها سوء العاقبة، تردّ عليها في تَبجحٍ :" أليس هذا الجمال رزق من الله، يجب أن نحيا به ، أم أن الفقير ليس له من دنياه غير المهانة والشقاء "، مشت مع الأيام وفي كل يوم تسقط أكثر، تنغرسُ قدماها في مُستنقعٍ لا تخرج منه، جَنحت بها الغُواية فأسلمتها لأيدي إبليس ، يلقمها ثدي الرذيلة ، تَمرَّست الفتاة في فجورها ، كَانَ " مدكور " كبش فداء ، هو شابٌ من فقراءِ القرية ، جَرَّته إليها بعد أن أوهمته بالحبِّ ، فانحرفَ قلبه ، اشترطت عليه الزواج فارتضى دون تفكير، ظنَّها تطلب سترا ، لم يهتد لحيلتها ، ولا لحبها المزعوم وهي تتخذه حِجابا مستورا ، تُمارس من خلفهِ انفلاتها، بعد حينٍ عادت لسيرتها الأولى تُراوغ العشاق، وتُماطل طالبي الهوى ، حَاولَ صَدّها عن السَّبيل ، مُذكِّرا إياها بحياِة الشرف ، لكنَّها صَمَّت وعمت، ووضعت يدها في يد شيطانها ، الذي نَفخَ في صدرها نفخة العَربدة ، فامتلأت جرأة لتفعل ما تشاء.

هذه المرة كانت أشدَّ قسوة، اغترفت من الإثمِ غرفة طاش لها عقلها ، أغراها العشاق بالمال، واغدقوا عليها ما ضاعفَ لذتها، لتشتبك الخيالات في عقلها، وتتلاحق الصور ، فظنَّت أنَّها الوحيدة التي بيدها مقاليد الحسن ومراتب الجمال ، كان عليها أن تهمل الزوج والبيت ، وتتفرغ لدنياها الجديدة التي لا تَفيق من خَمرها ليل نهار ، فَجأة ذبلت نَضارتها ، دَاهمها الهُزال ، باتت بين أنيابِ المرض ، تكاد روحها تفُارِق جسمها النَّحيل ، انصاع في الأخير لرغبةِ أبنائه فَذهب ليعودها ، وما إن رأته  حتّى فتحت عَينين أنهكهما المرض وكَحلهما الإرهاق، تمشّت على شفتيها بسمة واهنة ، حَدَّقت فيه بنظرةٍ مُنكسرة ، لتقول بصوتٍ هامس:" سامحني " ، زَحزحت كَلمتها بالألمِ نفسه، كَادَ مشهدها أن يستلّ روحه من بيِن أضلُعهِ ، ظلَّ في مكانهِ يُغالِبُ ألما ، تخنقه العبَرات ، يُفكِّر وهو في غَمرةِ الألم أن يعيدها إلى بيته، طالما كان هذا الأمل الوحيد لإنقاذها لتستعيد عافيتها ،انحنى دون وعيٍ فوقَ وجهها الشاحب يُقبّله في خُشوعٍ ، حَدجته في تَهللٍّ ورضا، ثم أغمضت عينيها ، امتدت يد الموت فقطفت الثمرة ، كانَ هذا آخر ما جَادت به، تَراجع عَنها وقد اخضّلت عيناها بالدموع ، يَطلبُ لها الرحمة والمغفرة.
--------------------
بقلم: 
محمد فيض خالد